عادة ما يكون النقد الصريح للذات ، والكشف الدّقيق أمام محكمة العقل لجميع اختلالات النّفس وتصدّعاتها ، ووضعها بأكبر جرأة ٍممكنة ٍأمام منظار إعادة ترتيب منطقية أو إدخال النّيّء منها إلى فرن بدرجة حرارة متوسّطة ؛ من أهمّ العوامل الّتي تجعل الشّباب يقفون على حافة تغيير مهمّ وواقعي وملموس قد يطال في الغالب معظم أساسات مخزونه من التّصوّرات الثّابت منها و المتأرجح ثمّ يمكن أن نضيف قطعاً المتحوّل كذلك.
والّذي دفعني إلى الإعتقاد بأنّ خطوة جريئة من قبيل الوقوف وجها لوجه أمام النّفس ومحاسبتها برفق زائد قد لا تكون له مضاعفات تذكر، خلافا لما هو معتقد بالجزم : أنّ التّرهيب والتّرغيب والتّأنيب وحمل النّفس على الإمتثال صاغرة لما هو مطلوب منها: هي أكثر الوسائل الناجعة و المؤكدة النّتائج .. أقول ما دفعني إلى اعتقاد كهذا : تجربتي الطّويلة واحتكاكي المباشر ببعض المشاكل وتداعياتها على النّفس البشريّة خاصّة وأنّني كنت ضحيّة بعضها في ظروف حرجة سبقت وعيي بها ، لولا أنّي استطعت ببعض الحيل الخبيثة والمكر الجميل- في اعتقاد بعض المتشدّدين المحسوبين على المتديّنين _ أن ألتفّ على حالة من الإنهيار الأقصى، والتذمّر السّلبي ، ووضعٍ نفسيّ معقّد عادة ما يُفضي ببعض شابّاتنا خصوصا وشبابنا عُموما إلى امتثالهم صاغرين لحالات من الإكتئاب والتّوحّد والعدميّة، ستتأثّر حتماً مراحلُ عمرهم اللاّحقة بأعراض هذه الهزّات المخرّبة في أحسن الأحوال ..
وقد عاينت بعض الحالات المرضية الشّديدة الوقع على أصحابها جعلتني متأثّرا كثيراً لفشل- بعض أصدقاء مراحل شبابي- في عدم قدرتهم على تجاوز بعض الأزمات النّفسية والتّي هي في أشدّ تجلّياتها : لم تكن مبنية إلاّ على أوهام وتمثّلات قد يكون من السّهل تجاوزها لو وُجد في حينها من يهتمّ بفضح عورتها الّتي لم تكن مستورة أصلا ً.. والشّديد عليّ هي ظاهرة الإنتحار الّتي ذهب ضحيّتها ويذهب بشكل مطّرد أعداد من الشّباب ، وقد يكون من السّهولة بمكان جعل الّذي وضع حدّا لحياته قبل عشرين عاما أجدر الآن أن يعيش باعتزاز ،ولو اقتربنا من الضّحيّة القاتل قيد حياته وجعلناه يتراجع عمّا هو يتصوّر أنّه المخرج من أزمة هي وهم في الأساس، لكنّا كسبنا روحا عزيزة وحياة نحن نعتزّ أنّنا نعيشها فوق التّراب هي أغلى من أن نفقدها بمحض إرادتنا ...
وقد قدّر لي أن أواجه بعض الحالات لبعض أصدقائي الّذين مرّت بهم في مراحل الشّباب عواصف مدمّرة ، فكان لي شرف علاجها بعد أن إستعصت بوسائل الشّعودة والتّفقيه و(التّسبيب) والدّجل النّفساني حتّى أنّ بعضهم عرض نفسه على اختصاصيين نفسانيين فرجعوا بخفّي حنين ...
الظاهرة الأكثر شيوعا وأكثر حضورا، وأعمق تأثيرا، في المشهد الشّبابي في مرحلتي المراهقة والشّباب هي ظاهرتي الإكتئاب والتوحد واللتان هما نتائج أزمتان الأولى عاطفية والثانية وجودية فلسفية فكرية بالأساس ، وقد لا يستطيع شابّ أو فتاة أن يدّعي أنّه لم يعش في إحدى هاتين المرحلتين عاصفة أو بالأحرى عواصف عاطفيّة غيّرت من مجرى تصوّره أو تصوّراته- ككلّ- لمعنى الحياة... لكن الّذي يختلف بالكاد هو كيف يتصرف الشّاب أو كيف تتصرّف الفتاة للخروج من أزمته أو أزمتها إذا كان أصلا يتصوّر أو كانت تتصوّر أنّ هناك أزمة .. فالغالب أنّ أكثر الشّباب يستيقظون فجأة منهارين مصدومين، بعد تجربة لم يَسُقــْهُم إليها أحد كارهين ، وإنّما انساقوْا بفعل مؤثّرات خارجية ، عرضت سهواً أو عمدا في الواجهة الأمامية للموضوع المنجذب إليه دون معرفة مسبّقة بكيفية التّعامل مع الآخر سواء انطباعاته الخارجية أو الداخلية ، يستيقظ هؤلاء الشّباب بانطباع أنّهم مخدوعون من طرف الموضوع (صاحب التّأثير أو المنجذب إليه وقد يكون الموضوع فكرة أو إيديولوجيا أو بشرا أنثاه أو ذكره ) ولكنّهم في الحقيقة ، لا يملكون أيّ قوّة ذاتية لمقاومة سحر و جاذبية المندفع إليه بفعل هشاشة المناعة الذّاتية : الفكرية ،التربوية ،التّقديرية ( تقدير أبعاد المرحلة )؛وقد يكون ذلك ناتجا عن قلّة خبرة العقل الشّبابي في توظيف المفاهيم ومبادئ المنطق الضّروريان لإضاءة أبعد نقطة ممكنة والّتي تحدّد شكل ، مستوى وقياس الخطوة الّتي يجب أن يتقدّم بها واثقا من نفسه...وهذا كلّه راجع إلى عنف اللّحظة وقوّة المؤثّرات وضعف البنيات التّحتية لتكوين الشّاب وخاصة الشباب الذين يستقرّ مؤشّر عمرهم مابين سنّ 16 عاما و18 عاما بالنّسبة للشّابّات ومابين 16 عاما و 22 بالنّسبة للشّباب ...
وقد يقول قائل إذا كان الكل معرّضا للتّجربة نفسها، في هذه المرحلة بالذّات، فلماذا نتحدّث عن ظاهرة أو مشكلة ، مادام أنّ الكل يدور في فلكها شاء أم أبى ( كالموت مثلا ُ) .؟ نعم هذا صحيح ، ولكن نتحدّث هنا عن الظّاهرة في شكلها الشّاذ أي عندما تكون التّجربة مدمّرة ، تمتدّ نتائجها إلى ما بعد مرحلة الشّباب وأكثر، ذلك أنّ بعض التجارب القاسية عادة ما تمّحي بمجرّد ما يصل المراهق مشارف مرحلة النّضوج والرّشد العقلي ، والخطيرة هي الّتي تمتدّ جذورها أبعد من المتوقّع وتداعياتها أبعد من مرحلة الشّباب وربما أكثر من ذلك مشارف الكهولة والشّيخوخة ، والحاسمة : هي حين يضطرّ بعض الشّباب - بفعل ضغوط تراكمت بالتّدريج - إلى تغيير مسار حياتهم جذريا ، أو: وهو أخطر: أن يرتدّ إلى اختيارات عادة ما ترتكز على أوهام التّخلّص من أعباء المسؤوليات والواجبات الضّرورية لسيرورة الحياة ، والهروب السّلبي منها ؛ مثلا : الانزواء والوحدانية والتّماهي مع لعبة النّسيان بوسائل أكثر فتكا ًبالجسم والعقل معا ، كالمخدّرات، وإدمان الهوايات المدمّرة الّتي لا طائل منها ، ولكنّ الأخطر والمفزع وهو الذّهاب إلى أبعد من ذلك : المرحلة النّهائية حين يكون الشّاب محاصرا من كلّ الجهات وبكلّ التّناقضات وبطوفان من الأسئلة الّتي لا يتمكّن من الإجابة عنها فلا يستطيع أن يفكّر في حلّ آخر ممكن أو متاح ( وهو في هذه الحالة مستحيل لانعدام بعد النّظر ) غير أن يجعل حدّاً لحياته بأشكال وطرق متنوّعة القديم منها والمستحدث كحلّ أخير لمعضلة لم يستطع الخروج منها ..
نعم للأسف ما تزال ماكينة الانتحار تحصد الآلاف بل الملايين من الشّباب الفتيان منهم والفتيات .. والأرقام الّتي ترد من لدن جهات مختصّة مهولة جدّاً والأسباب معظمها أو كلّها ترتبط أصلا ًبانهيارات جزئية أو كلّية تطال الصّرح الدّاخلي وتخرّب إمكانات المقاومة ضدّ اليأس وانهيار صروح الثّقة بالنّفس والاعتزاز بالقدرات الذّاتية ، أياًّ كانت هذه القدرات الّتي لا تخلو منها أيّ نفس حتّى في أظلم وأحلك اللّحظات الّتي يتّفق أن تكون هذه النّفس تعيش فيها أضعف من أن تقاوم مشكلة صغيرة أو أن تواجه تحدّيا صغيرا كأن تتعرّض هذه النّفس للسّبّ في الشّارع أمام الملأ في سبيل المثال لا الحصر أو أن تتعرّض لاستفزاز مقصود من طرف شبّان متهوّرين نيّتهم أن يقيسوا درجة ردّ فعل شخص مارّ أمامهم..
وفي نظري يصعب الإحاطة بكلّ الأسباب الّتي تنتهي بالشّباب إلى تغيير نظرتهم للحياة سلباً سواء بشكل أكثر دراماتيكي كالانتحار أو الانعزال والذّوبان الكلّي في نظرة سوداويّة تنتج أحيانا شخصيّة عدمية ،انتقامية ، ضدّ الكل ، وهؤلاء هم الأخطر على السّلم الشّخصي والسّلم المجتمعي الّذي يعيشون تحت ظلاله وقد يشكّلون خطرا على سلامة الإنسان ككائن بشري وحتّى على ما يسمّى بالسّلم العالمي ..وهذا واضح وجليّ في ما نراه من عنف سواء بدافع إيديولوجي ، أو دافع إقتصادي نفعي في مستوى العالم أجمع ، وهذا العنف أبطاله الشّباب على العموم هم المنهزمون كرها في حياتهم بجملة من الأسباب سنورد بعضا منها ما أمكننا ذلك. فالموضوع شائك ومتشعّبة مداخله ومربكة تساؤلاته ومظلمة أزقّته لكن سأحاول قدر المستطاع الذّهاب بعيدا متسلّحا بتجربة حيّة شخصيّة وأخرى لآخرين قريبين ومتسلّحا كذلك بالرّغبة المتّقدة في دواخلي لعقدين مضوا في وضع النّقاط على الحروف لإشكالية وإشكاليات يعيشها الشّباب النّامي .. تفاديا لإعادة استنساخ تجارب فاشلة لأجيال سابقة ؛ أو إضاءة بعض المواضع والتّساؤلات الجديدة التي تطرح كتحدٍّ يواجه الأجيال الآنية والآتية وكلّ هذا بأسلوب تحاوري سهل ومباشر وصريح مستندا إلى دعامة دينية معروفة : لا حياء في الدّين ..
لا حياء في أشياء لا يمكن أن نجد حلاّ لها إلاّ إذا كنّا حريصين على التّحدّث فيها علنا بهدف إيجاد مخرج لها أو منها وسنتناول كل شيء يمسّ شخصيتنا